1. توطئة

    أدَّى التحريف المتعمد لنصوص الوحي المسيحي والتأويلات البعيدة لأعمال المسيح وأقواله، تلك التي فتحت الكنيسة لها الباب على مصراعيه، إلى استمراء وتسويغ التصرفات الخاطئة التي تلت ذلك فيما بعد، ولما كانت تحريفات الكنيسة تخبطات عشوائية لا ترتكز على قواعد محددة وليس لها ضوابط رادعة، فقد ظل المجال فسيحاً لإضافات أكثر وثغرات أعمق، وكان للمطامع الدنيوية والرغبات الشخصية الفضل الأكبر في دفع الموجة قدماً وتوجيهها كما يراد.
    يضاف إلى ذلك الحماقات التي ترتكب بطريق السذاجة والبله من بعض المنتسبين إلى الدين، ولا تجد من ينكرها أو يحاصرها، فتصبح مع مرور الزمن طقوساً وشعائر دينية.
    كل ذلك تعرضت له النصرانية، فاستحقت أن توصم بأنها ديانة تركيبية أو بوتقة انصهرت فيها عقائد وخرافات وآراء متباينة، شكلت ديناً غير متسق ولا متجانس.
    ونظراً لصعوبة التمييز بين الصحيح من الزائف والأصلي من المبتدع في الدين النصراني، فقد تباينت وجهات نظر النقاد الغربيين وتباعدت شقة الخلاف بينهم، فغالى بعضهم إلى حد التصريح بأن النصرانية ديانة وضعية أرقى تكويناً وأدق تنظيماً من الديانات السابقة التي ابتكرها الإنسان -بزعمهم- منذ فجر التاريخ، وأن طقوسها وشعائرها هي امتداد للطقوس الطوطمية والشعائر الوثنية، التي كانت سائدة بين القبائل الهمجية القديمة.
    وبالمقابل تعصب آخرون - لاسيما ذوي الميول الدينية - للرأي القائل بأن الدين النصراني - مكتملاً - دين سماوي على الحقيقة، وأن كل ما في الأناجيل وحي صادق، وأن أعمال الكنيسة مشروعة يقرها ويمليها المسيح، فليس شيء منها يستحق أن يوصف بأنه بدعة محدثة أو إضافة خاطئة، وتظل الكلمة الفصل في الموضوع، كما هي دائماً، في القرآن الكريم الذي نزل مهيمناً على ما قبله من الكتب، ويظل الرأي الذي يصح أن يوصف بأنه موضوعي ونزيه - في هذه المسألة وأشباهها - من نصيب الباحث المسلم وحده.
    لقد سبق أن تحدثنا عن تحريف المسيحية - عقيدة وشريعة - والتحريف في ذاته بدعة خطرة، لكن الأمر لم يقتصر على تحريف ما هو موجود بالفعل، بل انتقل إلى إحداث ما لم يكن وابتداع تعاليم وضعية أُلصقت بـالمسيحية وأُدخلت في صلبها، وربما كانت بدعة رجال الدين - كما يسمون - أبعد البدع أثراً، لأن البدع الأخرى لم تكن لتنمو لولا أن رجال الدين هم الذين ابتدعوها وأقروها وأضفوا الشرعية عليها لذلك سنبدأ بالحديث عن هذه البدعة، ثم نعقب ببعض البدع الأخرى لتكون نماذج وأمثلة شاهدة على ما نقول.
  2. أولاً: رجال الدين الإكليروس

    ترى النظرة الجاهلية للتاريخ المتأثرة بنظرية التطور أن حياة البشر الدينية والاجتماعية مرت بثلاث مراحل رئيسية:
    1- مرحلة السحر والخرافة.
    2- مرحلة الدين.
    3- مرحلة العلم.
    وفي المرحلة الأولى كان الفكر البشري يعيش أدنى أطواره وأحطها، وكان الإنسان آنذاك يرى أن حياته مرتبطة بأسباب خفية لا يستطيع إدراكها، فلجأ إلى السحر والشعوذة اللذين يستطيعان التأثير بطريقة غير محسوسة، وكلما ازداد وعي الإنسان بحياته وتفرعت آماله ومطامعه، ازداد تعلقه بالسحرة والكهان، لدفع الأرواح الشريرة التي تسبب له الضرر في نظره ولجلب المنافع المعيشية المتنوعة، وبمرور الزمن أصبح السحرة والكهان يتمتعون بأسمى المراكز الاجتماعية لدى الهمج، فآلت إليهم زعامات القبائل، وفرضوا سلطاناً مادياً لأنفسهم في أموال ونساء أتباعهم.
    وبعد اكتشاف الزراعة واستقرار الحياة الإنسانية، بُنيت المعابد والهياكل وأصبح بعض الكهان ملوكاً يتوارثون الحكم، بينما ظل البعض الآخر يرأس المعابد والهياكل التي كانت تدر عليهم الشرف العريض والمال الوفير.
    وبانتقال الإنسان إلى المرحلة الثانية "مرحلة الدين" بقيت رواسب موروثة عن المرحلة الأولى، من أبرزها طبقة رجال الدين الذين ليسوا سوى امتداد للسحرة والكهان في المرحلة السالفة، وظلوا يقومون بالمهمة نفسها التي كان يتولاها أولئك من قبل، والفارق الوحيد هو أن هؤلاء يستمدون سلطتهم من الدين بينما يستمدها أولئك من السحر.
    هذا هو التعليل الجاهلي لظهور رجال الدين، وهو تعليل قاصر لأنه ينكر الوحي الإلهي ويغفل، عامداً، الفترات المضيئة التي تخللت التاريخ البشرى منذ البدء، وهي الفترات التي شهدت مبعث الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ((وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ))[فاطر:24]، ويقصر نظره على فترات الانحراف عن منهج الله، تلك التي طغت عليها الخرافات والشركيات، وتحول فيها أتباع الأنبياء إلى سدنة أوثان ومشعوذين وكهان.
    والتصور الإسلامي للتاريخ ينظر إلى الحياة البشرية على أنها خطان متوازيان: خط مشرق يمثل البشرية حين تهتدي إلى الله وتسلك طريق الأنبياء الذين يتعاقبون لردها إلى جادة الطريق، وخط آخر مظلم يمثل حزب الشيطان وفترات الضلال الذي طرأ على البشرية بعد أن كانت أمة واحدة على الإيمان، والسمة العامة للتاريخ هي الصراع بين الهدى والضلال، بين الحق والباطل.
    ونحن لا ننكر التشابه الظاهر بين رجل الأكليروس في المسيحية وبين السحرة والكهان في العصور السابقة، لكننا نرجع ذلك إلى كون الطائفتين انحرفتا عن أصل صحيح واحد ولا نمضي أبعد من ذلك، أما التعليل المباشر الذي يوضح الأصل الحقيقي لرجال الدين، فهو أن الله تعالى أنزل التوراة على موسى عليه السلام، واحتفظ بها الأحبار من بعده، فكان الأمر يقتضي وجود عدد من ذوي الموهبة والعناية يتفرغون لحفظ الكتاب وشرح تعاليمه وتأويل مشكله وإيضاح أحكامه، كي يسير عليها الفرد والمجتمع، وأمر الله تعالى هؤلاء العلماء أن يكونوا ربانيين بما كانوا يعلمون الكتاب وبما كانوا يدرسون، ونهاهم عن كتمان شيء منه أو تحريفه أو شراء شيء من عرض الدنيا به، لكن الأمر آل إلى أن كثيراً من الأحبار أغرتهم المطامع الدنيوية الزائلة واشتروا بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً، ضيعوا الأمانة وفرطوا في الحفظ وفرضوا لأنفسهم سلطة دنيوية، يأكلون أموال الناس بالباطل ويتقبلون القرابين ويفرضون على الناس العشور باسم الهياكل والبيع، مستغلين منصبهم الديني أسوأ استغلال.
    وبذلك استحقوا المقت من الله، وكانوا مثلاً سيئاً وقدوة طالحة لمن جاء بعدهم، ثم بعث الله عيسى بن مريم عليه السلام ومعه الإنجيل، فحذر أتباعه أبلغ تحذير من اقتفاء أثر أحبار اليهود الذين كان المسيح يسميهم "بائعي العهد، أولاد الأفاعي، عباد الدنيا" ودعا قومه إلى الاتصال المباشر بالله والتوبة إليه والخضوع له وحده دون سواه، وكان يوصي الحواريين والتلاميذ، قائلا": "رؤساء الأمم يسودونهم والعظماء يتسلطون عليهم فلا يكون هكذا فيكم" .
    لكن القسيسين والرهبان لم يكونوا أفضل حالاً من الأحبار، فقد سلكوا الطريق نفسها وانصاعوا إلى الدنيا مستعبدين أتبعاهم المؤمنين، وساعد وجودهم ضمن الامبراطورية الرومانية على تثبيت مراكزهم وتدعيمها، وذلك بأنهم اقتبسوا من الأنظمة والهياكل السياسية للدولة فكرة إنشاء أنظمة وهياكل كهنوتية، وكما كانت هيئة الدولة تمثل هرماً قمته الامبراطور وقاعدته الجنود، كانت الهيئة الكنسية تمثل هرماً مقابلاً قمته البابا وقاعدته الرهبان، ونتيجة لمبدأ فصل الدين عن الدولة رعت الامبراطورية الهرم الكنسي ولم تر فيه ما يعارض وجودها فرسخ واستقر.
    يقول المؤرخ الإنجليزي ويلز، في معرض الفرق بين مسيحية المسيح ومسيحية الكنيسة -كما سبق- أن تعاليم يسوع الناصري تعاليم نبوية من الطراز الجديد الذي ابتدأ بظهور الأنبياء العبرانيين، وهي لم تكن كهنوتية، ولم يكن لها معبد مقدس حبساً عليها ولا هيكل، ولم يكن لديها شعائر ولا طقوس، وكان قربانها "قلباً كسيراً خاشعاً " وكانت الهيئة الوحيدة فيها هيئة من الوعاظ، وكان رأس ما لديها من عمل هو الموعظة.
    "بيد أن مسيحية القرن الرابع الكاملة التكوين، وإن احتفظت بتعاليم يسوع في الأناجيل "كنواة لها"، كانت في صلبها ديانة كهنوتية من طراز مألوف للناس من قبل منذ آلاف السنين، وكان المذبح مركز طقوسها المنمقة والعمل الجوهري في العبادة فيها، هو القربان الذي يقربه قسيس متكرس للقداس، ولها هيئة تتطور بسرعة مكونة من الشمامسة والقساوسة والأساقفة".
    وكان من الأسس الباطلة التي بنى عليها رجال الدين مبررات وجودهم مبدأ "التوسط بين الله والخلق"، الذي يقتضي ألاَّ يذهب الإنسان إلى رجل الدين ليعلمه كيف يعبد الله، بل ليعبد الله بواسطته، وليس للمذنب أن يتجه بتوبته إلى الله، طالباً الصفح والمغفرة، بل عليه أن يتجه إلى رجل الدين معترفاً أمامه بذنبه ليقوم بالتوسط لدى الله فيغفر له، وحسب هذا المبدأ نصب رجال الدين أنفسهم أنداداً لله تعالى وأوقعوا أتباعهم في الشرك الأكبر ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ))[التوبة:31] وفوق كونه مبدأً باطلاً شرعاً، ساقطاً عقلاً، فإنه ليس في الأناجيل -رغم تحريفها- ما يدل على أن المسيح أقره أو دعا إليه.
    وقد ترتب على هذا المبدأ آثار سيئة للغاية، منها: احتكار رجال الدين لحق قراءة وتفسير الإنجيل، ثم مهزلة صكوك الغفران، وكذلك الانشقاقات الدينية المتوالية التي دمرت الحياة بصفة عامة، وأخيراً كان هذا المبدأ إحدى الحجج التي سلها ملاحدة القرن السابع عشر فما بعد، في وجه الأديان عامة والمسيحية خاصة، وسيأتي تفصيل هذه الأمور في أبوابها بإذن الله.
    يقول العالم الفرنسي المهتدي "ناصر الدين دينيه": ''الوسيلة هي إحدى كبريات المسائل التي فاق بها الإسلام جميع الأديان، إذ ليس بين الله وعبده وسيط، وليس في الإسلام قساوسة ولا رهبان، إن هؤلاء الوسطاء هم شر البلايا على الأديان وإنهم لكذلك مهما كانت عقيدتهم ومهما كان إخلاصهم وحسن نياتهم، وقد أدرك المسيح نفسه ذلك، ألم يطرد بائعي "الهيكل "؟ غير أن أتباعه لم يفعلوا مثلما فعل، واليوم لو عاد عيسى فكم يطرد من أمثال بائعي الهيكل؟''
    "كذلك ما أكثر البلايا والمصائب، بل ما أكثر المذابح والمجازر التي يكون سببها هؤلاء الوسطاء، سواءً كانت بين العائلات وبعضها أو بين الشعوب والشعوب، وهم في ذلك كله يصيحون: باسم مجد الله" .
    أما السلطة الكهنوتية، الطاغية، فإنها تستند إلى أسانيد واهية لا بد من مناقشتها:
    لقد مر معنا -وسيظل- حقيقة تاريخية واضحة هي أن الافتراء على الله من جهة وسوء الفهم والخطل في الاستنباط من جهة أخرى، أمران ملازمان للكنيسة ملازمة الظل لأصله، وقد أخذ الله تعالى على أهل الكتاب هذه الأخطاء المتكررة ((تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ))[الأنعام:93].. ((يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ))[النساء:46].
    وجرياً على ذلك تزعم الكنيسة أن المسيح قال لـبطرس كبير الحواريين: " أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً في السموات" .
    فهمت الكنيسة من هذا القول: أن المسيح يعني أن السلطة الدينية المهيمنة باسمه سترتكز في الموضع الذي يموت فيه كبير الحواريين بطرس، ومن هذا المركز تمد أجنحة نفوذها على العالم أجمع وتحكمه باسم المسيح، وبما أن المسيح بطرس -كما تقول الكنيسة- مات في رومة، فإن رومة هي قاعدة المسيح لحكم العالم، وفيها مقر الكنيسة التي يرأسها ممثل المسيح ورسوله "البابا " المعصوم عن الخطأ، وكل ما تقرره الكنيسة هذه هو عين الصواب، إذ أن المسيح بواسطة الروح القدس هو الذي يملي عليها تصرفاتها، ومادام أنها تعمل باسم الله، وتحل وتبرم حسب مشيئته، بل هو يحل ويبرم حسب مشيئتها -تعالى الله على ذلك علواً كبيراً- فطاعتها واجبة، وقراراتها إلزامية لكل المؤمنين بالمسيح، وليس على الأتباع إلا الطاعة العمياء والانقياد الذي لا يعرف جدلاً أو نقاشاً، والذنب الذي لا يغتفر هو أن تصادم أوامر الله، التي هي أوامر الكنيسة، بواسطة العقل البشرى أياً كان صاحبه، والخارج على سلطة الكنيسة أو الناقد لقرارات مجامعها كافر "مهرطق" تحل عليه اللعنة والحرمان من دخول الملكوت، مهما بلغت وجاهة رأيه بل مهما كانت سوابقه وخدماته للمسيحية وللكنيسة نفسها.
    أما إذا كان المتمرد على الكنيسة وسلطتها حاكماً أو شعباً، فإن الجيوش المقدسة ستسحقه بأقدامها، إرضاءً للمسيح.
    ذلك هو زعم الكنيسة التي تحول إلى واقع تاريخي عاد بأسوأ النتائج على أوروبا والعالم أجمع، ونحن لا نملك حياله إلا موقفاً واحداً صريحاً هو موقف الإنكار القاطع لنسبة هذا القول إلى رسول الله المسيح عليه السلام.
    إن هذا القول يخدش التوحيد الذي دعا إليه الأنبياء كافة، ويمس العقيدة الإيمانية الصحيحة في جوهرها، وهو من نوع دعوى الأناجيل الزاعمة أن المسيح قال: " أنا ابن الله " سواءً بسواء، بل أن إنجيل متى ليصرح بأن المسيح إنما قال ذلك لـبطرس مكافأة له على قوله: ''أنت المسيح ابن الله الحي'' ولقد قال الحق -تبارك وتعالى- ((مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ))[آل عمران:79/80].
    فالأنبياء دعاة التوحيد ورسل الحق، لا يتصور أن تصدر عنهم دعوى فيها شائبة من شرك، وحاشا أن يزعم أحد منهم لنفسه شيئاً من خصائص الألوهية فضلاً على أن يهبه لغيره.
    والمسيح -عليه السلام- بشر رسول لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، فكيف يجوز أن ينسب إليه أنه يمتلك مفاتيح الملكوت التي لا يملكها إلا الله وحده؟ وإذا كنا ننكر جازمين أن يملكها المسيح فلا معنى للجدال في كونه وهبها لـبطرس أو لم يهبها، وكون الكنيسة ورثتها من بطرس أو لم ترثها، فالخطأ هنا أساسي لا يمكن إقراره، كما لا يمكننا أن نقر بأن المسيح إله.
    ومع ذلك فليس في استطاعة الكنيسة أن تقنع أي باحث علمي بصحة مزاعمها بطريق الأدلة اليقينية، ولا يستطيع أي إنسان ذي عقل سليم أن يساير منطقها الأعوج ويؤمن بمسلماتها العمياء.
    وقد سخر الكاتب الأمريكي "جرين برنتن" من استدلال الكنيسة بهذه الفقرات، وأرجع السبب في وقوع الكنيسة في هذا الخطأ إلى التشابه الشكلي بين لفظتي "بطرس" و"صخرة"
    وإذا كان مفسرو الأناجيل المتعصبون لدينهم يصرحون بأن آيات كثيرة في الأناجيل لا أصل لها -كما سبق- في مبحث التثليث - فما بالك بالنقاد والمفكرين من غير رجال الكنيسة، فضلاً عن المسلم الذي ينفرد بمعلومات يقينية لا يتطرق الشك إليها.
    ومن وجهة نظر التاريخ لا يمكن تبرير الشناعات التي ارتكبتها الكنيسة والحروب الطاحنة التي عرقلت مسيرة الحضارة وأزهقت أرواح الأبرياء، والاستبداد والطغيان اللذين مارسهما رجال الدين في كل شئون الحياة، والوقوف المستمر في صف الطغاة والظلمة ضد الشعوب البائسة، ومحاكم التفتيش، وإحراق العلماء، وبقية الجرائم الأخرى لا يمكن أن تبرر ذلك بأن المسيح أورث سلطانه وملكوته للسلطة الكهنوتية الغاشمة.
    وبالإضافة إلى ذلك لو راجعنا إنجيل متى الذي أورد هذا الافتراء لوجدنا المسيح بعد ثلاث فقرات فقط من هذا القول يخاطب بطرس قائلاً: "اذهب عني يا شيطان، لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس..." فكيف يتسق هذا الوصف وهذه التهمة مع الهبة السابقة والتكريم الذي لا حد له؟.
    ثم لماذا تنظر الكنيسة إلى هذا القول وأضرابه، وتغض الطرف عن مثل قول المسيح الصريح: ''رؤساء الأمم يسودونهم والعظماء يتسلطون عليهم، فلا يكون هكذا فيكم'' وقوله: ''أحبوا أعداءكم أحسنوا إلى مبغضيكم، باركوا لاعنيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم'' .
  3. ثانياً: الرهبانية

    للوجود الإنساني في هذه الأرض غاية سامية أرادها الخالق سبحانه منذ أن اختار الإنسان للقيام بالمهمة العظمى "الخلافة في الأرض"، وأناط به مسئولية عمرانها بالصلاح والخير، ولكيلا ينسى الإنسان الغاية من وجوده، ولتقوم عليه الحجة أمام خالقه، جعل الله تعالى تلك الغاية جزءاً من تكوينه، مودعاً إياها في أعماق نفسه، ((فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ))[الروم:30]، وبعث إليه الرسل تترى ليكونوا نماذج حية لتحقيق هذه الغاية الإيجابية والدعوة إليها.
    لكن الناس -بإغواء الشيطان لهم- يضلون الطريق، فيغفلون عن غاية وجودهم، منغمسين في حدود المطالب الحيوانية العاجلة، أو يتصورون هذه الغاية على غير حقيقتها، فتضل أعمالهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
    ومن تصور هذه الغاية على غير حقيقتها، الاعتقاد بتفاهة الحياة الدنيا إلى درجة إسقاط القيمة التي جعلها الله لها، والغلو في تهذيب النفس البشرية إلى حد التضييق والتعذيب، مع صرف النظر عن عمارة الكون التي هي جزء من الغاية العظمى.
    وما الرهبانية التي عرفها الناس منذ القدم إلا تطبيق عملي للتصور السلبي الخاطئ الذي نشأ عن الجهل بطبيعة الإنسان ومهمته في الوجود.
    ومع أن الرهبانية بدعة بشرية مشتركة بين أديان عديدة، نلاحظ أن للرهبانية النصرانية ظروفاً وأسباباً بارزة تضافرت على إيجادها وتنميتها، حتى أصبحت أبرز مظاهر الدين الكنسي على مر العصور.
    أسباب الرهبانية:
    1- عقيدة الخطيئة الأصلية الموروثة: إحدى التعاليم الكبرى في المسيحية المحرفة، وموجزها أن آدم عليه السلام أكل من الشجرة "شجرة المعرفة!" فعاقبه الله بالطرد من الجنة وأسكنه التراب، وظل الجنس البشري يرسف في أغلال تلك الخطيئة أحقاباً متطاولة، حتى أنزل الله ابنه -تعالى على ذلك علواً كبيراً- ليصلب فداءً للنوع الإنساني، وليبين للناس طريق الخلاص من هذه الخطيئة، فأصبح لزاماً على الإنسان أن يقتل نفسه لمنحها الخلاص، يقول إنجيل متى: ''من أراد أن يخلص نفسه يهلكها'' .
    ويقول إنجيل لوقا: ''من طلب أن يخلص نفسه يهلكها ومن أهلكها...'' .
    ولما كانت المرأة -حسب رواية سفر التكوين- هي التي أغرت الرجل بالأكل من الشجرة، فإن النصرانية المحرفة ناصبت المرأة العداء، باعتبارها أصل الشر ومنبع الخطيئة في العالم، لذلك فإن عملية الخلاص من الخطيئة لا تتم إلا بإنكار الذات وقتل كل الميول الفطرية والرغبات الطبيعية، والاحتقار البالغ للجسد وشهواته لا سيما الشهوة الجنسية.
    ومن ناحية أخرى تولد عن الشعور المستمر بالخطيئة أن قنط كثيرون من رحمة الله، فلا يكاد أحدهم يقترف كبيرة حتى تظلم الدنيا في عينيه، ويثأر من نفسه بإرغامها على الالتحاق بأحد الأديرة والمترهبين فيه.
    2- رد الفعل المتطرف للمادية اليهودية الجشعة والأبيقورية الرومانية النهمة:
    فقد بعث الله عبده ورسوله المسيح بين ظهراني فئتين يربطهما رباط التهالك على الدنيا، والتفاني في سبيل ملذاتها، والعبودية الخانعة لشهواتها، هما: قومه اليهود أجشع بني الإنسان وأشدهم تعلقاً وتشبثاً بالحياة، ومستعمروهم الروم الغارقون إلى آذانهم في مستنقع الحياة البهيمية وأوكار الشهوات الدنسة، فكان المسيح عليه السلام - بأمر الله - يعظهم بأبلغ المواعظ، ويذكرهم بالآخرة أعظم تذكير، ويضرب لهم الأمثال المتنوعة، ويقص عليهم القصص المؤثرة، كل ذلك لكي يرفعهم من عبودية الدنيا إلى عبادة الله، ويفتح عيونهم على ما ينتظرهم في العالم الآخر من الأهوال، فيحسبوا له الحساب، وآمن بالمسيح قوم تأثرت أنفسهم، واتعظت قلوبهم بما سمعوا منه، لكنهم مع مرور الزمن ورد فعل منهم للضغط المادي عليهم، غلوا واشتطوا حتى خرجوا عن حدود ما يأمرهم به الوحي وتمليه الفطرة السوية، ونسبوا إلى المسيح أنه أمر الغني أن يتجرد من أمواله، ويحمل الصليب ويتبعه، وقال: "مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله "، وأنه أوصى تلاميذه قائلاً: ''لا تقتنوا ذهباً ولا فضةً ولا نحاساً في مناطقكم، ولا مزوداً للطريق، ولا ثوبين، ولا أحذية، ولا عصاً'' .
    3- الأثر الذى خلفته الفلسفات ووثنيات التهربية القانطة:
    كان العالم في العصر الواقع بين وفاة المسيح ومبعث محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعيش فترة من انقطاع الوحى، والمتعطش إلى دين حقيقى لم تستطع المسيحية المحرفة أن تسدها، فاستبدت الحيرة والضلال بكثير من ذوي التفكير العميق والإحساس المرهف، فابتكروا، أو اعتنقوا، فلسفات تنم عن التذمر والتهرب من الحياة، وتقوم على التأمل والاستغراق في عالم ما وراء المادة، وخير مثال لذلك الفلسفة الرواقية.
    وكان إلى جانب ذلك وثنيات قاتلة تقهر الجسد على حساب الروح وتقدس اليأس والتقشف، كـالبوذية والبرهمية.
    ولما كان بولس - محرف المسيحية الأكبر - مطلعاً على هذه الفلسفات والوثنيات متأثراً بآرائها، فقد لقح بها ديانته الوضعية، وأدخلها في صلب مسيحيته، ثم توارثها الأتباع من بعده، ومن اقتباسات بولس النظرة المتشائمة إلى الحياة الدنيا ومتاعها.
    وقد أثرت هذه الاعتقادات وما اقتبسته المسيحية المحرفة منها في رواج الرهبانية وشيوعها في القرون التي تلت المسيح.
    يقول صاحب "معالم تاريخ الإنسانية": ''كانت الأديرة موجودة في العالم قبل ظهور المسيحية، وفي الفترة التي ألمَّ فيها الشقاء الاجتماعي باليهود، قبل زمان يسوع الناصري، كانت طائفة من النساك الأسينيين تعيش منعزلة في مجتمعات وهبت نفسها لحياة تقشفية من الوحدة والطهر وإنكار الذات، كذلك أنشأت البوذية لنفسها مجتمعات من رجال اعتزلوا غمرة الجهود العامة والتجارة في العالم ليعيشوا عيشة التقشف والتأمل'' . ''ونشأت في زمن مبكر جداً من تاريخ المسيحية حركة مشابهة لهذه تتنكب ما يغمر حياة الناس اليومية من منافسة وحمية وشدائد، وفي مصر على وجه الخصوص، خرجت حشود كبيرة من الرجال والنساء إلى الصحراء، وهناك عاشوا عيشة عزلة تامة، قوامها الصلوات والتأملات، وظلوا يعيشون في فقر مدقع في الكهوف أو تحت الصخور على الصدقات التي تقذفها إليهم الصدفة من أولئك الرجال الذين يتأثرون بقداستهم'' .
    4- الأوضاع الاجتماعية القاسية: كان المجتمع الروماني مجتمعاً طبقياً ظالماً، تكدح فيه قطاعات ومجموعات كبيرة لصالح أفراد قلائل، وكان سكان المستعمرات خاصة يعانون البؤس وشظف العيش إلى جانب الظلم والطغيان، فقنط كثيرون من الحياة، ورأوا أن خير وسيلة للتخلص من خدمة الأسياد والحصول على العيش ولو كفافاً، هو دخول الأديرة حيث ينفق عليهم من تبرعات المحسنين وأوقاف الكنيسة، ويذكر صاحب كتاب "قصة الحضارة" أن "الآلاف من الشباب كانوا يدخلون الأديرة فراراً من الخدمة العسكرية التي فرضها الرومان"
    نظام الرهبانية:
    يتضمن نظام الرهبانية شروطاً لا بد من تحقيقها في الراهب منها:
    1- العزوبة: أهم شروط الرهبانية، إذ لا معنى للرهبانية مع وجود زوجة، ومعلوم أن المسيح عليه السلام، لم يتزوج، وينسب إنجيل متى إلى المسيح قوله: ''يوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات من استطاع أن يقبل فليقبل'' .
    على أن التنفير من المرأة وإن كانت زوجة، واحتقار وترذيل الصلة الجنسية وإن كانت حلالاً، من أساسيات المسيحية المحرفة، حتى بالنسبة لغير الرهبان، يقول " سان بونافنتور " أحد رجال الكنيسة: ''إذا رأيتم امرأة فلا تحسبوا أنكم ترون كائنا بشرياً، بل ولا كائناً حياً وحشياً، وإنما الذي ترون هو الشيطان بذاته والذي تسمعون هو صفير الثعبان'' .
    وكان من المشاكل المستعصية على الكنيسة مشكلة زواج رجال الدين غير الرهبان أو تسريهم، و(كانت الكنيسة منذ زمن بعيد تعارض زواج رجال الدين بحجة أن القس المتزوج يضع ولاءه لزوجه وأبنائه في منزلة أعلى من إخلاصه للكنيسة).... (وأنه سيحاول أن ينقل كرسيه أو مرتبته لأحد أبنائه، يضاف إلى هذا أن القس يجب أن يكرس حياته لله وبني الإنسان، وأن مستواه الأخلاقي يجب أن يعلو على مستوى أخلاق الشعب وأن يضفي على مستواه هذه المكانة التي لا بد منها لاكتساب ثقة الناس وإجلالهم إياه '' بوجوب التبتل على رجال الدين وتطليق زوجات المتزوجين منهم، وكان لهذا الأمر آثار امتدت إلى القرن السادس عشر وانتهت بانتصار الكنيسة'' .
    وإذا كان هذا هو الحال مع غير الرهبان، فلنتصور كيف تكون الحال معهم!
    2- التجرد الكامل عن الدنيا: ويعنى ذلك: العزلة النهائية عن المجتمع، وقطع النظر عن كل أمل في الحياة، والرضا من الرزق بالكفاف، وعدم الاهتمام بالمطالب الجسدية حتى الضروري منها كالملابس والنظافة، وإذا كانت المسيحية المحرفة تأمر الأفراد العاديين باحتقار الحياة وتعده من أولى الواجبات، فبديهي أن تكون معاملة الراهب أقسى وأعتى.
    يقول صاحب كتاب " المشكلة الأخلاقية والفلاسفة ": ''لنقرأ هذا السفر الطريف (محاكاة المسيح)، إنه سفر من أكبر أسفار التبتل المسيحي، ولنطلب بين صحائفه مظاهر الحياة المسيحية بمعناها الصحيح، وأن ما نجده لمعبر عن الحال أبلغ عبارة: احتقار أساسى لكل علم، حتى يشمل ذلك علم الإلهيات، واحتقار أصيل لكل ما نسميه خيرات هذا العالم: الثراء والشرف الاجتماعي، حتى المركز الوسط، وإنه لحتم علينا أن نستشعر دائماً التواضع والندم، وأن نمارس عملياً على الدوام التضحية وكل مظهر تمليه الرحمة، وأن نجمع حواسنا في صمت وذهول تام وتأمل ديني ينسى المرء فيه كيانه، يجب أن نقتل فينا كل ميول دنيوي، يجب أن يموت عالم الرغبة، يجب أن نبدأ من هذا العالم الزائل ما سوف يُكوِّن لنا الوجود الأبدي'' .
    ثم يعلق على هذه التعاليم قائلاً:
    "عظمة وعلاء؛ ولكنه قضاء قاسٍ على الإنسانية، وإن التطبيق الكامل لمثل تلك المبادئ ليمكن أن يملأ الأرض بأديرة فيها الرجال من جهة والنساء من جهة أخرى، ينتظرون في طهارة وتأمل الزوال النهائي للنوع الإنساني" .
    3- العبادة المتواصلة: يفرض نظام الحياة الرهبانية على الراهب أن يكون في حالة عبادة مستمرة يمليها عليه الأب، ولا يستطيع التردد في الطاعة، بل عليه أن يجهد نفسه ويرهفها ويكلفها ما لا تطيقه من الصلوات والصيام والتراتيل والترانيم وسائر الطقوس، وإذا سئم من ذلك أو قصر في شيء منه فإن للنظام عقوباته الرادعة... ولنأخذ نموذجاً لذلك تعاليم القديس "كولمبان" الذي أسس الأديرة في جبال الفوج بـفرنسا، ومن تعاليمه: " يجب أن تصوم كل يوم، وتصلي كل يوم، وتعمل كل يوم وتقرأ كل يوم، وعلى الراهب أن يعيش تحت حكم أب واحد ".
    "ويجب أن يأوي إلى الفراش وهو متعب يكاد يغلبه النوم وهو سائر في الطريق، وكانت العقوبات صارمة أكثر ما تكون بالجلد: ستة سياط إذا سعل وهو يبدأ ترنيمة، أو نسي أن يدرم أظافره قبل تلاوة القداس، أو تبسم أثناء الصلاة، أو قرع القدح بأسنانه أثناء العشاء الرباني ".
    " وكانت اثنا عشر سوطاً عقاب الراهب إذا نسي أن يدعو الله قبل الطعام، وخمسون عقاب المتأخر عن الصلاة، ومائة لمن يشترك في نزاع، ومائتان لمن يتحدث من غير احتشام مع امرأة.
    وأقام " كولمبان " نظام الحمد الذى لا ينقطع، فقد كانت الأوراد يتلوها بلا انقطاع ليلاً ونهاراً طائفة بعد طائفة من الرهبان " يوجهونها إلى عيسى ومريم والقديسين"
    4- التعذيب الجنوني: لم يقتصر الأمر على ما ذكره بل كما هي طبيعة البدع تجاوز ذلك إلى تصرفات جنونية تشمئز لها الفطر السليمة، ابتدعها بعض الرهبان ليعبروا عن قوة إيمانهم وعمق إخلاصهم لمبدئهم، (وروى المؤرخون من ذلك عجائب فحدثوا عن الراهب ماكاريوس أنه نام ستة أشهر في مستنقع ليقرض جسمه العاري ذباب سام، وكان يحمل دائماً نحو قنطار من حديد، وكان صاحبه الراهب يوسيبيس يحمل نحو قنطارين من حديد...، وقد أقام ثلاثة أعوام في بئر نزح... وقد عبد الراهب يوحنا ثلاث سنين قائماً على رجل واحدة، ولم ينم ولم يقعد طوال هذه المدة، فإذا تعب جداً أسند ظهره إلى صخرة. وكان بعض الرهبان لا يكتسون دائما، وإنما يتسترون بشعرهم الطويل ويمشون على أيديهم وأرجلهم كالأنعام، وكان أكثرهم يسكنون في مغارات السباع والآبار النازحة والمقابر، ويأكل كثير منهم الكلأ والحشيش، وكانوا يعدون طهارة الجسم منافية لنقاء الروح، ويتأثمون عن غسل الأعضاء، وأزهد الناس عندهم وأنقاهم أبعدهم عن الطهارة، وأوغلهم في النجاسات والدنس، يقول الراهب اتهينس: إن الراهب أنتوني لم يقترف إثم غسل الرجلين طوال عمره، وكان الراهب أبراهام لم يمس وجهه ولا رجله الماء خمسين عاماً، وقد قال الراهب الإسكندري بعد زمان متلهفاً: واأسفاه، لقد كنا في زمن نعد غسل الوجه حراماً، فإذا بنا الآن ندخل الحمامات" .
    وهناك "راهب منعزل اخترع درجة جديدة من الورع يربط نفسه بسلسلة إلى صخرة في غار ضيق " وأما القديس كولمبان فـ(كانت السناجب تجثم على كتفيه، فتدخل في قلنسوته وتخرج منها" وهو ساكن.
    نتائج الرهبانية:
    من سنن الله في الكون أن كل مبدأ أو نظام لا يساير الفطرة البشرية فإن مآله إلى الخسران والفناء، ومصير أتباعه شقاء مطبق وضياع مرير، لا يستطيع أحد أن يأتي بدين يوائم الفطرة إلا خالقها جل شأنه، ولذلك كان المبتدعون وواضعو المذاهب البشرية أكثر شيء إساءة إلى الجنس البشري.
    وما من شك في أن الرهبانية ليست من فطرة الإنسان ولا من غايات وجوده، بل هي على النقيض من ذلك، ولهذا لم يأمر بها الله ولم يشرعها ((وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا))[الحديد:27] فهي بدعة حتى بالنسبة للذين تطوعوا بإلزام أنفسهم بها مدفوعين بالحرص على رضاء الله، فما بالك بها بعد أن انخرط في سلكها الفساق وطلاب الدنيا؟
    إن المرء لا تقع عينه على مؤلف من مؤلفات تاريخ الغرب في عصوره الوسطى، إلا ويرى فيه ما يشين ويلطخ الحياة الرهبانية من الفضائح الشنيعة والدعارة التى لا تضارعها دعارة مواخير الفساد.
    يقول رئيس دير كلوني: إن بعض رجال الدين في الأديرة وفي خارجها يستهترون بابن العذراء استهتاراً يستبيحون معه ارتكاب الفحشاء في ساحاته نفسها، بل في تلك البيوت التى أنشأها المؤمنون الخاشعون لكي تكون ملاذاً للعفة والطهارة في حرمها المسور، لقد فاضت هذه البيوت بالدعارة حتى أصبحت مريم العذراء لا تجد مكاناً تضع فيه الطفل عيسى"
    لقد أدى التزمت والغلو في الدين ومغالبة الطبع السوي والفطرة السليمة إلى نتيجة عكسية تماماً، وأصبحت الأديرة مباءات للفجور والفسق تضرب بها الأمثلة في ذلك، وقد وصل الحال بنصارى الشرق -وربما كانوا أكثر حياء وأشد تمسكاً- إلى حد أن المستهترين من الخلفاء والشعراء المجان كانوا يرتادون الأديرة كما يرتاد رواد الدعارة اليوم بيوت العهر، وألفوا في ذلك كتباً منها كتاب "الديارات" المعروف لدى دارسي الأدب العربي.
    هذا بالنسبة للمترهبنين، أما الفرد المسيحى فقد ضعفت ثقته بالدين، وتزعزعت في نفسه القيم والأخلاق الدينية، كيف لا وهو يرى خصيان الملكوت ومثَّال الطهر يغرقون في الفجور وينالون من المتع الجسدية ما لا يمكنه بلوغه؟! أما الغيورون منهم فقد اتخذوا ذلك ذريعة للانشقاق عن الكنيسة، وتكوين فرق دينية جديدة لها أديرة خاصة تبدأ أول الأمر نظيفة، لكنها لا تلبث أن تعود فتسقط فيما سقط فيه أسلافها، كل ذلك كان في الفترة التي لا تزال قبضة الكنيسة فيها قوية، ونفوذها صلباً، لكن المرحلة التى شهدت ضعف سلطانها فيما بعد شهدت رد فعلٍ طاغياً ضد أغلال الكنيسة وقيودها مما جعل بذور الفلسفات الإباحية، والحركات غير الأخلاقية تنمو نمواً مطرداً، وصُحِّح الرأي القائل بأن "المسيحية نفاق منظم كما اتهمتها أجيال عديدة من النقاد العقليين المرة تلو الأخرى" وأنها "لم تكن عند أكثر الناس غير ستار رقيق يخفي تحته نظرة وثنية خالصة إلى الحياة"
    هذا وقد ظلت رواسب الرهبانية متغلغلة في أعماق النفسية الأوروبية؛ حتى بعد أن فقد الدين مكانته في النفوس -لاسيما ما يتعلق بالمرأة والجنس- وكان لذلك أثره في النظريات الهدامة الحديثة خاصة "الفرويدية " كما سيأتي في مبحث علمانية الاجتماع والأخلاق.
  4. ثالثاً: الأسرار المقدسة

    فطر الله النفس الإنسانية على الإيمان بالغيب، وهو ما لا يستطيع الإدراك الذاتي أن يكتشفه، ومن هنا نشأ فيها والتوق إلى المجهول والشوق لمعرفته، حتى أن كثيراً من الموضوعات والحقائق تكتسب الجاذبية والإعجاب ما دامت مجهولة، فإذا انتقلت إلى حيز الوجود فقدت ذلك، ولا تستطيع النفس البشرية بمفردها أن تتلمس الخط الفاصل بين الغيب والشهادة وبين المعلوم والمجهول، بل لابد من الالتجاء إلى الوحي الإلهي لمعرفته، وذلك هو الطريق السليم الوحيد، لكن البشر يضلون، فيلتمسون ذلك من طرق أخرى، ويحاولون إشباع الرغبة الفطرية في الإيمان بالغيب والتطلع إليه منقطعين عن الوحي، فيدفعهم الشيطان في التعلق بعملائه من الكهنة والسحرة والمشعوذين، وحينئذٍ يقعون في الشرك الذي جاء الأنبياء جميعاً لمحاربته بكل ضروبه.
    وقد وقعت البشرية في هذه الغلطة منذ القدم، وامتلأت الوثنيات القديمة بالأسرار والأساليب الخفية والرموز الغامضة، وغلط أتباع الأنبياء غلطة أشنع لاقتباسهم لأشياء من هذه الأسرار والرموز وإدخالها في دينهم، وذلك ما حصل بعينه في المسيحية المحرفة.
    وللمسيحية أسرار كثيرة متعددة الأصول بعضها إغريقي، وبعضها بوذي، وبعضها منقول عن المثرائية ديانة بولس الأولى، من هذه الأسرار ما يتعلق بأمور العقيدة كَسِر الثالوث -وهو أكبر أسرار المسيحية وأخطرها- ومنها ما يتعلق بشئون العبادة والطقوس كَسِر التعميد، وسر العشاء الرباني، وسر الاعتراف، وسر الزيت المقدس، وسر الصلاة الأخيرة للمحتضر وأمثالها.
    ونستطيع أن نقول: إن الكنيسة تعمد إلى تبرير كل طقس من طقوسها يأباه العقل وتنفر منه النفوس بأنه (سر إلهي)، فكلمة (سر) كانت ثوباً فضفاضاً يستر كل نقائصها ومخازيها، وسلاحاً فورياً يقاوم كل اعتراض عليها.
    وقد سبق الكلام عن سر التثليث، أما أسرار الطقوس فلنكتف منها بمناقشة سر واحد هو (سر العشاء الرباني) ليكون نموذجاً لبقيتها.
    العشاء الرباني:
    العشاء الرباني هو أهم عمل في الطقوس المسيحية، ويسمى أيضاً (القربان المقدس)، وقد ورد أصل مشروعيته في إنجيل متى كما يلي: ''وفيما هم يأكلون أخذ يسوع الخبز وبارك وكسر وأعطى التلاميذ، وقال: خذوا كلوا، هذا هو جسدي، وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلاً: اشربوا منها كلكم، لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا''.
    أما إنجيل يوحنا فلا يتعرض لعشاء بعينه لكنه يذكر في الإصحاح السادس أن اليهود طلبوا من المسيح آية لهم كالخبز الذي أنزله الله على أجدادهم فقال لهم المسيح: ''أنا هو خبز الحياة، من يقبل إليَّ فلا يجوع، ومن يؤمن بي فلا يعطش أبداً''، ولما رأى دهشة اليهود من ذلك أكده بقوله: ''الحق الحق أقول لكم: إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم، من يأكل جسدي ويشرب دمى فله حياة أبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير، لأن جسدي مأكل حق، ودمي مشرب حق، من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنا فيه'' .
    ويرى غوستاف لوبون - كغيره من النقاد العقليين -أن شعائر النصرانية- ومنها العشاء المقدس- بدعة منقولة عن الوثنية المترائية ويؤيد هذا الرأي أن بولس (شاؤل اليهودي) كان مثرائياً أو على الأقل متأثراً بـالميثرائية التي كان من شعائرها التضحية بالعجل المقدس، ولذلك نرى أن بولس يكثر في رسائله من الحديث عن جسد المسيح وحلوله في أتباعه، ويورد في الإصحاح الحادي عشر من رسالته الأولى إلى أهل كورنثيوس، ما يشبه كلام متى السابق مع زيادة أن ذلك كان في الليلة التي أسلم فيها المسيح، على أن علم الاجتماع يرجع فكرة العشاء الرباني إلى أصل قديم هو النظام الذي يعرف في اصطلاحهم باسم الطوطمية (وهو نظام معقد غامض يحوي فيما يحوي قيام علاقة قرابة وصلة بين القبيلة، والطوطم الذي يكون حيواناً أو نباتاً يحرم بموجبها صيده وتناوله إلا في مناسبات شعائريه معينة لكي يكتسب الآكلون صفات مرغوبة يتوهمونها في الطوطم، ويعتقدون أنه يجرى دمه في عروقهم بتناوله في هذه المناسبات.
    وعلى أية حال، فقد كان المسيحيون الأوائل يقيمون وليمة تذكارية في عيد الفصح قوامها الخبز والخمر اللذان يرمزان إلى جسد ودم المسيح، وذلك إحياء لذكرى موته، كما أوصى حسب رواية بولس (اصنعوا هذا لذكري).
    وقد كان كافياً أن تقف البدعة عند هذا الحد لولا أن الكنيسة جرياً على عادتها في التحريف وسوء الفهم والخلط بين الحقيقة والمجاز، أضافت إلى ذلك العقيدة المعروفة بعقيدة التحول أو الاستحالة، وهى وجوب الاعتقاد بأن متناولي العشاء يأكلون جسد المسيح بعينه على الحقيقة، ويشربون دمه نفسه على الحقيقة أيضاً. أما كيف يتحول الخبز والخمر إلى جسد ودم المسيح؛ فإن ذلك سر لا يجوز لأحد أن يسأل أو يشكك فيه وإلا عوقب بالحرمان والطرد من الملكوت.
    وظاهر أن عقيدة الاستحالة مما لا يتردد العقل في إنكاره ونبذه، إذ لا يستطيع عقل سليم أن يتصور استحالة خبز وخمر إلى لحم ودم، في حين أن الآكلين يتذوقون طعم الخبز والخمر العادي، ثم إن جسد المسيح واحد وموائد العشاء تعد بالآلاف سنوياً، وفي أماكن متفرقة، فكيف يتفرق دمه وجسده عليها جميعها؟!
    وإذا كانت الكنيسة تزعم أن الغاية من ذلك هو أن يدخل المسيح في أجساد الآكلين فيتمتعوا بالألوهية فهل تتحقق هذه الغاية بمجرد الاعتقاد بها؟! وما جدوى هذه الوسيلة بل هذه الغاية أصلاً؟!
    إن الكنيسة استغلت بلاهة وسذاجة أتباعها، ففرضت عليهم مثل هذه العقائد الغريبة الممجوجة، لكن الفطرة البشرية لابد أن تستيقظ مهما طالت غفلتها، وذلك ما تم بالفعل، فقد أدَّى إسراف الكنيسة في الاستخفاف بعقول البشر ومعاندة الفطر الإنسانية إلى تلك الثورة العارمة ضد الكنيسة التي ابتدأت منذ اتصال أوروبة بنور الإسلام، وانتهت بانهيار الكنيسة وفقدانها معظم نفوذها وهيمنتها في القرن الماضي.
    وقد كانت مسألة الاستحالة من الثغرات التي فتحت على الكنيسة ولم تستطع لها سداً بما سببت من انشقاقات دينية ونقد مرير من المؤرخين والمفكرين، وكان من أوائل المنكرين لها (ويكلف) المصلح الكنسي؛ ثم تبنت ذلك حركة البروتستانت التي تزعمها (مارتن لوثر) وظهر بعد ذلك النقاد العقليون، فسخروا من هذا الطقس أعظم سخرية، وكان من روادهم الفيلسوف الفرنسي (فولتير).
    ويقول أحد الباحثين المعاصرين عن العشاء الرباني: إنه مثال رائع لما يراه بعض المؤرخين إفساداً للحقائق أو -على الأقل- إضافة جاءت في وقت متأخر.
  5. رابعاً: عبادة الصور والتماثيل

    شمل اقتباس النصرانية من الديانات والوثنيات المجاورة كل أمور العقيدة والشريعة والشعائر، كما شمل الذوق والإحساس والمظاهر العامة، فلم يكن شيء من عقائدها وطقوسها إلا وعليه بصمات وثنية واضحة يتجلى ذلك في التماثيل والصور التي لا يخلو منها دير أو كنيسة رغم أن شريعة التوراة تحرم التصوير ونحت التماثيل وتعده من أعمال الوثنيين (سفر التثنية).
    ونشأت عبادة الصور والتماثيل -كأية بدعة أخرى- محدودة النطاق، ثم نمت تدريجياً وانتشرت في أرجاء واسعة، لكنها لم تدخل في صلب الديانة المسيحية بصفة رسمية إلا في مجمع نيقية الثاني كما سيأتي:
    يقول: (ول ديورانت ): ''كانت الكنيسة أول أمرها تكره الصور والتماثيل، وتعدها بقايا من الوثنية، وتنظر بعين المقت إلى فن النحت الوثني الذي يهدف إلى تمثيل الآلهة، ولكن انتصار المسيحية في عهد قسطنطين وما كان للبيئة والتقاليد والتماثيل اليونانية من أثر، كل هذا قد خفف من حدة مقاومة هذه الأفكار الوثنية، ولما أن تضاعف عدد القديسين المعبودين نشأت الحاجة إلى معرفتهم وتذكرهم، فظهرت لهم ولمريم العذراء كثير من الصور، ولم يعظم الناس الصور التي يزعمون أنها تمثل المسيح فحسب، بل عظموا معها خشبة الصليب، حتى لقد أصبح الصليب في نظر ذوي العقول الساذجة طلسماً ذا قوة سحرية عجيبة'' .
    وأطلق الشعب العنان لفطرته، فحول الآثار والصور والتماثيل المقدسة إلى معبودات يسجد لها الناس ويقبلونها، ويوقدون الشموع، ويحرقون البخور أمامها ويتوجونها بالأزهار ويطلبون المعجزات بتأثيرها الخفي.
    (وفي البلاد التي تتبع مذهب الكنيسة اليونانية بنوع خاص كنت ترى الصور المقدسة في كل مكان في الكنائس والأديرة والمنازل والحوانيت وحتى أثاث المنازل والحلي والملابس نفسها لم تخل منها، وأخذت المدن التى تتهددها أخطار الوباء أو المجاعة أو الحرب تعتمد على قوة ما لديها من الآثار الدينية، أو على ما فيها من الأولياء والقديسين.. للنجاة من هذه الكوارث)
    تلك هي الصورة مجملة في القرون المسيحية الأولى، ولكن المد الإسلامي العظيم في القرن الثامن الذي شمل معظم المعمورة أحدث بتعاليمه التوحيدية الخالصة أثراً قوياً في البيئات الوثنية المجاورة -لا سيما دولة الروم النصرانية- وبفضل هذا التأثير أحس الغربيون بسخافة معتقداتهم وضحالة تفكيرهم مبهورين بما لدى المسلمين من عقيدة ناصعة وحضارة شامخة.
    لذلك، فقد قامت في الغرب في فترات متقطعة من تاريخه حركات معادية لهذه البدعة من أشهرها: محاولة الامبراطور (ليو الثالث) الذي أصدر مرسوماً يطلب فيه طمس الصور وإزالة التماثيل، وأراد بذلك أن يزيل عن أمته ودينها هذه الوصمة الشنيعة التي تظهره بمظهر النقص أمام أعدائه المسلمين، لكن الكنيسة رفضت ذلك وضجت الأديرة والكنائس وثار الشعب، واتفق الكل على خلعه والمناداة بإمبراطور آخر.
    غير أن الحركة لم تمت، بل ظل أوارها يستعر، فاجتمع مجلس من أساقفة الغرب دعا إليه البابا (جريجوري الثاني)، وصب اللعنة على محطمي الصور والتماثيل .
    وفي عهد أحفاده عاد الصراع من جديد، وظلت الـمسألة تتأرجح بين الحرمة والحل حتى دعت الامبراطورة (إيريني) التي كانت معاصرة لـهارون الرشيد رجال الدين في العالم المسيحي إلى عقد مجمع عام لبحث الـمسألة واتخاذ قرار حاسم حيالها، فاجتمع مجمع نيقية الثاني سنة (787) وحضر (350) أسقفاً واتخذ القرار الآتي:
    إنا نحكم بأن توضع الصور ليس في الكنائس والأبنية المقدسة والملابس الكهنوتية فقط بل في البيوت وعلى الجدران في الطرقات؛ لأننا إن أطلنا مشاهدة ربنا يسوع المسيح ووالدته القديسة والرسل وسائر القديسين في صورهم شعرنا بالميل الشديد إلى التفكير فيهم والتكريم لهم، فيجب أن تؤدى التحية والإكرام لهذه الصور، لا العبادة التي لا تليق إلا بالطبيعة الإلهية.
    وبذلك انتصرت وثنية الكنيسة على أفكار معارضيها ردحاً من الزمان، وحسبت أن العبادة تعني الركوع والسجود ولا شيء غير ذلك.
    وبعد ذلك بقرابة ثلاثة قرون، اتصل الغرب الوثني بالشرق المسلم اتصالاً أقوى عن طريق الحروب الصليبية، فكان ذلك عاملاً فعالاً في بعث الحركة المناهضة لعبادة الصور والتماثيل، ونادى كثير من المصلحين الكنيسيين بذلك، وبظهور الحركة الإصلاحية تزعم البروتستانت الحرب على الصور والتماثيل وحرمتها كنائسهم، إلا أن الغالبية الكاثوليكية لا تزال تقدسها وتلعن محطميها.
    وربما دهش المرء إذا علم أن تقديس الصور عادة غربية شائعة في عصرنا الحاضر ليس في الأوساط الدينية فحسب، بل في الأوساط العامة وبعض المثقفين .
    وبلغ بصورة المسيح وأمه حد الابتذال والامتهان، وكانت الطامة الكبرى في الأفلام السينمائية حيث وصل السخف والاستهتار بإحدى الشركات السويدية (وربما كانت يهودية) سنة (1397هـ) إلى إنتاج فيلم عن (حياة المسيح الجنسية) والغريب أن الدول الغربية اتخذت موقفاً سلبياً تجاه هذه الفعلة الشريرة، بينما بعثت بعض المنظمات الإسلامية نداءات لإيقاف الفيلم.
    ولم يقتصر الأمر على المسيح وأمه، بل إن الكنيسة تجرأت على البارئ جل شأنه، وصورته كما تصور المخلوقين تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا.
    يقول الأستاذ ناصر الدين دينيه:
    ''الدين الإسلامي هو الدين الوحيد الذي لم يتخذ فيه الإله شكلاً بشرياً أو ما إلى ذلك من الأشكال، أما في المسيحية فإن لفظ الله تحوطها تلك الصورة الآدمية لرجل شيخ طاعن في السن، قد بانت عليه جميع دلائل الكبر والشيخوخة والانحلال، فمن تجاعيد الوجه غائرة إلى لحية بيضاء مرسلة مهملة تثير في النفس ذكرى الموت والفناء، ونسمع القوم يصيحون (ليحيي الله) فلا نرى للغرابة محلاً، ولا نعجب لصيحاتهم وهم ينظرون إلى رمز الأبدية الدائمة، وقد تمثل أمامهم شيخاً هرماً قد بلغ أرذل العمر فكيف لا يخشون عليه من الهلاك والفناء؟! وكيف لا يطلبون له الحياة؟! كذلك (يا هو) الذي يمثلون به طهارة التوحيد اليهودي، فهم يجعلونه في مثل تلك المظاهر المتهالكة، تراه في متحف الفاتيكان ونُسَخ الأناجيل القديمة المصورة".
    هذا وليس تصوير الإله انحرافاً في نظر الكنيسة؛ فإن أحد علمائها يقرر (أنه لا يمكننا أن نفهم الله إلا عن طريق تصوره بالصور البشرية) .
    ولنا بعد ذلك أن نتصور ما تحدثه هذه الوثنية الساذجة في نفس الإنسان الغربي المتثقف ومدى ما تنفره من الدين وتجعله فريسة الأفكار الإلحادية المتخفية بلباس (العلم والمعرفة).
    بقي أن نعلم أنه لم تكن عبادة الصور والتماثيل هي الاقتباسة الوثنية الوحيدة، بل كانت الأمم الأوروبية المتوحشة تدخل في النصرانية اسمياً مع بقاء عقائدها وتقاليدها الوثنية بحالها وتتغاضى الكنيسة عن ذلك مقابل الخضوع لها ودفع الضرائب المستحقة، فلم تكن تهدف إلى هداية الناس، بل إلى بسط سلطانها ونفوذها، لا سيما وأنها ليست مهتدية في ذاتها.
    ومن أوضح الأمثلة على ذلك دخول الجزر البريطانية في المسيحية، فقد كان البريطانيون شديدي التمسك بوثنيتهم. ودار بينهم وبين الكنيسة صراع طويل، ولما رأى البابا (جريجوري) ذلك (اصطنع اللين مع من بقي في إنجلترا من الوثنيين، وأجاز تحويل الهياكل إلى كنائس بأن تحول عادة التضحية بالثيران في يسر ولطف إلى ذبحها لإنعاشهم لمديح الله، وبهذا كان كل ما طرأ على الإنجليز من تغير، هو تحولهم من أكل لحم البقر حين يحمدون الله إلى حمد الله حين يأكلون لحم البقر) .
  6. المعجزات والخرافات

    تفتقر المسيحية المحرفة في كثير من تعاليمها إلى الإقناع العقلي والبرهان المنطقي لإثباتها نظراً لتنافيها مع الفطرة وبدائه التفكير، لذلك اضطرت الكنيسة إلى تعويض نقص بضاعتها من الأدلة بادعاء الخوارق والمعجزات قاصدة التمويه على العقول الضعيفة واستغفال النفوس الساذجة، وكانت خوارق الكنيسة وشعوذتها تتراوح بين الرؤى المنامية ذات التهويل البالغ وبين التكهن المتكلف بالمغيبات وحوادث المستقبل، وبين تحمل الأساليب واستجداء شتى الوسائل لشفاء الأمراض المستعصية يتبع ذلك أمور أخرى كتعليق التمائم والرقى والتمتمات المجهولة واستعمال إشارة الصليب وتعليق صور القديسين، ومحاربة الشياطين، وطرد الأرواح الشريرة، وصد الكوارث والأوبئة، واستنزال النصر في الحروب وغير ذلك.
    وكان من السهل على العقلية الأوروبية الهمجية أن تتقبل هذه السخافات، وتصدق الكنيسة في كل شيء بفضل الإرث الوثني الذي ظل متغلغلاً في أعماقها.
    وفي القرون الأولى للمسيحية كان معظم المعجزات يدور حول شخصية المسيح وأمه وشيء منها للرسل والتلاميذ، لكن الكنيسة لم تقتصر على المعجزات الربانية الحقة، بل نسج خيالها خوارق أخرى هي أخلاط وأوهام يغلب عليها عنصر التهويل وتتسم بطابع الأساطير الوثنية القديمة التي تخيلها شعراء اليونان وغيرهم.
    ولنأخذ على ذلك مثلاً: (مولد عيسى) -عليه السلام- كما صوره يوحنا في الإصحاح الثاني عشر من الرؤيا: ''ظهرت آية عظيمة في السماء امرأة متسربلة بالشمس والقمر، تحت رجليها وعلى رأسها إكليل من اثني عشر كوكباً، وهى حبلى وتصرخ متمخضة ومتوجعة لتلده وظهرت آية أخرى في السماء هوذا تنين عظيم، أحمر له سبعة رءوس وعشرة قرون، وعلى رءوسه سبعة تيجان، وذنبه يجر ثلث نجوم السماء، فطرحها إلى الأرض والتنين وقف أمام المرأة العتيدة أن تلد،حتى يبتلع ولدها حتى ولدت، فولدت ابنا ذكراً يرعى جميع الأمم بعصا من حديد، واختطف ولدها إلى الله وإلى عرشه، والمرأة هربت إلى البرية حيث لها موضع معد من الله لكي يعولها هناك ألفا ومائتين وستين يوماً، وحدثت حرب في السماء ميخائيل وملائكته حاربوا التنين وحارب التنين وملائكته''.
    أما بطرس فتروي له رسالة (أعمال الرسل) هذه المعجزة: ''صعد بطرس على السطح ليصلي نحو الساعة السادسة، فجاع كثيراً واشتهى أن يأكل، وبينما هم يهيئون له، وقعت عليه غيبة فرأى السماء مفتوحة، وإناء نازلاً عليه مثل ملاءة عظيمة مربوطة بأربعة أطراف، ومدلاة على الأرض، وكان فيها كل دواب الأرض والوحوش والزحافات وطيور السماء'' .
    أما في العصور اللاحقة فقد اتسع نطاق المعجزات حتى أصبحت مكانة رجل الدين وقداسته مرهونة بما يظهر على يديه من الخوارق، وما يتعاطى من الشعوذات، وكان باستطاعته أن يترقى في منصبه بالقيام بأي عمل تجهل العقول الساذجة علته الحقيقية، مدعياً أن ذلك هبة من الروح القدس له، وإذا كان التاريخ يذكر فزع الامبراطور (شارلمان) وحاشيته من الساعة التي أهداها إليه الرشيد ظانين أن بها قوى خفية من الجن والشياطين، فما بالك بعامة الشعب من الفلاحين والرعاة؟!
    ونظراً لكثرة الشواهد التاريخية على ذلك فسنتجاوز القرون الوسطى إلى العصر الحديث حيث نلمح الكثير من الخرافات الكنسية لا تزال تمارس نشاطها على أتباع الكنيسة في العالم الغربي ذاته، يقول فريزر: ''معظم الفلاحين في فرنسا لا يزالون يعتقدون أن القسيس يملك على العناصر قوة خفية لا تقاوم، وأنه حين يتلو البعض الصلوات المعينة بالذات التي لا يعرفها سواه والتي لا يحق لغيره أن يرتلها، فإنه يستطيع في حالة الخطر الداهم أن يبطل لفترة معينة فعل القوانين الأبدية للعالم الفيزيقي أو حتى يقلبها تماما''.
    وفي مناطق أخرى يعتقد الناس أن القسيس يملك القدرة على تشتيت العواصف وإن لم يكن لكل القساوسة مثل هذه الملكة، ولذا فانه حين يتغير راعي الكنيسة في بعض تلك القرى يبدى أتباع الأبرشية كثيراً من التلهف لمعرفة ما إذا كان الراعى الجديد يتمتع بهذه السلطة كما يسمونها، وعلى ذلك فمجرد أن تظهر أدنى بادرة بهبوب إحدى العواصف الشديدة؛ فإنهم يخضعونه للاختبار، فيطلبون إليه القيام ببعض الشعائر والتراتيل ضد الغيوم المتكاثفة، فإذا جاءت النتائج محققة لآمالهم ضمن الراعي الجديد لنفسه عطف أتباع الكنيسة واحترامهم وإلا فالعكس بالعكس.
    وهناك قداس خاص يستعمله القساوسة في الأعمال الانتقامية يتحدث عنه فريزر بقوله: ''لا يقام هذا القداس إلا في كنيسة متهدمة أو مهجورة، حيث تنعق البوم وتمرح الخفافيش وقت الغسق، وتأوي إليها جماعات الغجر في الليل، وحيث تقبع الضفادع البرية تحت مذبحها المدنس، فهناك يأتي ذلك القسيس الشرير بالليل ومعه عشيقته الفاجرة الخليعة، وحين ترسل الساعة أول دقاتها معلنة الحادية عشر يبدأ يُهَمْهِم في تلاوة القداس ابتداءً من آخره إلى أوله بحيث يفرغ منه حين تبدأ دقات الساعة تعلن منتصف الليل، وتقوم عشيقته بمساعدته في ذلك، أما القربان الذي يباركه فلابد أن يكون أسود اللون كما أنه لا يتناول النبيذ، ولكنه يشرب بدلاً منه بعض الماء من بئر سبق أن ألقيت فيها جثة طفل مات قبل تعميده، ثم يرسم علامة الصليب، ولكن على الأرض وبقدمه اليسرى، ويقوم بأداء كثير من الأعمال الأخرى التي لا يستطيع أي مسيحي أن يراها دون أن يصيبه العمى والصمم والبكم بقية حياته'' .
    وفي سنة (1893م) حدثت في جزيرة صقلية واقعة تصور الموضوع أبلغ تصوير، فقد كانت الجزيرة تمر بمحنة رهيبة بسبب الجفاف، وكان الجدب قد استمر ستة أشهر متصلة وتناقصت كميات الطعام بسرعة وانتاب الناس ذعر شديد، فجربوا كل الطرق المعترف بها للحصول على المطر، خرجت جموعهم من منازلهم، وأحاطوا بالصور والتماثيل المقدسة، يتوسلون إليها بترتيل الصلوات وإضاءة الشموع في الكنائس طيلة الليل والنهار، وعلقوا على الأشجار سعف النخيل الذي سبق لهم أن باركوه في " أحد السعف" ونثروا في الحقول (الكناسة المقدسة) وهى التراب الذي كنسوه من الكنائس في ذلك اليوم فلم يجد ذلك شيئاً، وحملوا الصلبان على أكتافهم، وساروا حفاة الأقدام عراة الرءوس وجلد بعضهم بعضاً بالسياط ولكن دون جدوى.
    وأخيراً لجئوا إلى القديسين، وتجمعوا حول القديس فرانسيس الذي اعتادوا حسب اعتقادهم أن ينالوا المطر ببركته، فأقاموا له الصلوات والترانيم والزينات، لكن جهودهم كلها ذهبت هباء، فنبذوا معظم القديسين حتى إنهم ألقوا بـالقديس يوسف في إحدى الحدائق ليجرب بنفسه الحال التي وصل إليها الناس، وأقسموا أن يتركوه هناك في الشمس حتى يأتيهم بالمطر، وأداروا وجوه بعض القديسين إلى الحائط كما يفعل المدرس بالتلاميذ الأشقياء، وجردوا بعضهم من ملابسهم الفاخرة وقذفوهم بأقذع السباب والشتائم، أما القديس ميخائيل رئيس الملائكة -حسب عقيدتهم- فقد نزعوا أجنحته الذهبية ومزقوها ووضعوا مكانها أجنحة ورقية، وفي بعض المناطق قيد الناس قس بلدتهم وتركوه عارياً، وأخذوا يهتفون إليه بغضب (المطر أو حبل المشنقة) .
    ومن الخرافات التي ما تزال عالقة بأذهان النصارى إلى اليوم خرافة (تجلَّي العذراء) التي يثيرونها حيناً بعد آخر كما أن هناك عادت غربية شائعة اليوم أصلها خرافات كنسية، فمثلاً التشاؤم من الرقم (13) أصله أن يهوذا الذي دل على المسيح هو التلميذ الثالث عشر للمسيح، فكان ذلك مصدر شؤم للكنيسة وأتباعها حتى أنه عند ترقيم المنازل في المدن الغربية يرفض بعضهم وضع هذا الرقم على منزله ويضع مكانه (12ب).
    وهذا غير الخرافات الكنسية عن الكون والحياة التي سنعرض لها عند موضوع (علمانية العلم)، وحينئذٍ سيتضح أثر هذه الخرافات بجملتها في إثارة الصراع الذي دار طويلاً بين الدين والعلم (أو العقل والوحي).
  7. صكوك الغفران

    توجت الكنيسة تصرفاتها الشاذة وبدعها الضالة بمهزلة لم يعرف تاريخ الأديان لها مثيلاً، وحماقة يترفع عن ارتكابها من لديه مسكة من عقل أو ذرة من إيمان، تلك هي توزيع الجنة وعرضها للبيع في مزاد علني وكتابة وثائق للمشترين تتعهد الكنيسة فيها بأن تضمن للمشتري غفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبراءته من كل جرم وخطيئة سابقة ولاحقة، ونجاته من عذاب المطهر، فإذا ما تسلم المشترى صك غفرانه ودسه في محفظته فقد أبيح له كل محظور وحل له كل حرام: ماذا عليه لو زنى وسرق وقتل، بل لو جدف وألحد وكفر ما دام الصك رهن يده؟ أليس المسيح هو الذي منحه إياه والمسيح هو الذي يدين ويحاسب؟ أتراه متناقضاً إلى هذا الحد: يمنح الناس المغفرة ثم يحاسبهم على الذنوب؟
    وإذ قد اطمأن المشترى إلى هذه النتيجة فقد بقي لديه ما ينغص الفرحة، ويكدر الغبطة، ذلك أن والديه وأقرباءه قد ماتوا وليس معهم صكوك.
    لكن الكنيسة الأم الرءوم لكل المسيحيين شملت الكل برحمتها، وأتمت الفرحة لزبونها فأباحت له أن يشتري لمن أحب (صك غفران)، وما عليه بعد دفع الثمن إلا كتابة اسم المغفور له في الخانة المخصصة فيغادر المطهر فوراً ويستقر في ظلال النعيم مع المسيح والقديسين.
    أما الشقي النكد عديم الحظ، فهو ذلك القن الذي لم يستطع أن يحصل من سيده الإقطاعي (المغفور له) على ما يشتري به صكاً من قداسة الآباء أو المريض المقعد الذي لا يجد عملاً يخول له الحصول على المغفرة، أو الفقير المعدم الذي يعجز عن استدانة دينارين يشترى بها جنات النعيم، هؤلاء يظلون محرومين من هذه الموهبة مهما بلغت تقواهم، وعظم حبهم للمسيح وتعلقهم بالعذراء.
    تلك هي المهزلة أو جانب منها، فمن أين جاءت بها الكنيسة إذا كانت الأناجيل والرسائل خالية مما يدعمها أو يدل عليها؟
    إن الأساس الذي يبدو أن هذه البدعة انبثقت عنه هو الفكرة الوثنية التي ادعاها رجال الدين (فكرة القداسة)، وعن تقديس رجال الدين نشأت فكرة الاستشفاع بهم لدى الله لمغفرة الخطايا، وظل الجهلة والسذج يتوسلون إلى القساوسة راجين الشفاعة والتقرب إلى الله زلفى، فنتج عن ذلك أن تقرر المبدأ الذي أشرنا إليه سلفاً (مبدأ التوسط بين الله والخلق)، حتى أصبح حقاً عادياً لأي رجل دين، بل أصبحت وظيفة رجل الدين أينما كان هي التوسط بين الله وخلقه، فعن طريقه تؤدى الصلاة، ويتناول العشاء الرباني، وهو الذي يقوم بالتعميد، وبمراسم وطقوس الزواج والموت ويتقبل الاعترافات من المذنبين.
    وفي الوقت الذي كان رجل الدين فيه يتقبل الاعتراف لم يكن ليدعي حق المغفرة من نفسه؛ لكن المسيح -بزعمه- يغفر لمن أقر بذنبه بين يدي أحد أتباع كنيسته التي أورثها سلطانه وفرض لها السيادة على العالمين.
    وكان الفرد المسيحي يستطيع ضمان الملكوت مع المسيح باعتراف واحد في العمر هو اعترافه ساعة احتضاره، إذ يتم دهن جسده بالزيت المقدس، فيتطهر من كل الأرجاس والذنوب، وكان من العقوبات الصارمة التي تتخذها الكنيسة ضد مخالفيها من الشعوب أو الأفراد حرمانهم من الاعتراف الأخير والصلاة عليهم؛ فلا يشك مسيحي أنهم ذهبوا إلى الجحيم بسبب ذلك.
    واستمر الحال على ذلك فترات طويلة حتى كان مطلع القرن الثالث عشر الميلادي حيث كانت الكنيسة تجتاز مرحلة حاسمة في تاريخها، وكانت بحاجة إلى مزيد من السلطة الدينية والنفوذ المالي لمواجهة أعدائها، فقررت عقد مجمع عام لبحث الوسائل الكفيلة بتحقيق ذلك، فعقد المجمع الثاني عشر المعروف باسم مجمع لاتيران سنة (1215م) ونجح هذا المجمع في إقرار مسألتين كان لهما أثر بالغ على المسيحية في القرون التالية هما:
    مسألة الاستحالة، وقد مرت قريباً (العشاء الرباني).
    مسألة امتلاك الكنيسة حق الغفران للمذنبين، وذلك بإصدار القرار التالي:
    3- ''إن يسوع المسيح لما كان قد قلد الكنيسة سلطان منح الغفرانات، وقد استعملت الكنيسة هذا السلطان الذي نالته من العلا منذ الأيام الأولى، قد أعلم المجمع المقدس وأمر بأن تحفظ للكنيسة في الكنيسة هذه العملية الخلاصية للشعب المسيحي والمثبتة بسلطان المجامع، ثم ضرب بسيف الحرمان من يزعمون أن الغفرانات غير مفيدة، أو ينكرون على الكنيسة سلطان منحها غير أنه قد رغب في أن يستعمل هذا السلطان باعتدال واحتراز حسب العادة المحفوظة قديماً والمثبتة في الكنيسة لئلا يمس التهذيب الكنسي تراخ بفرط التساهل''.
    هذا وقد فرض المجمع على كل المسيحيين أن يعترفوا أمام قسيس الأبرشية مرة كل عام؛ لكي يستطيعوا الحصول على الغفران وتنفيذاً لذلك أخذ الناس يتوافدون على الأبرشيات طلباً للمغفرة، ويقدمون للقساوسة الهدايا والصدقات، فارتفع مركز الكنيسة معنويا ومادياً.
    وبعد فترة من الزمن أخذ هذا التوافد في الفتور وتقاعس كثيرون عن الاعتراف، وفي الوقت نفسه ازداد إلحاح الكنيسة على تثبيت مركزها وتعبئة خزائنها فقررت اتخاذ وسيلة ناجحة لضمان استمرار ذلك، فهداها تفكيرها إلى كتابة الغفرانات في صكوك تباع على الملأ وتنص على غفران أبدي بحيث تكون حافزاً قوياً على دفع المبلغ المالي الذي تقرره الكنيسة أو القيام بالخدمات التي ترغب تنفيذها وهذا نص الصك:
    (ربنا يسوع يرحمك يا... (يكتب اسم الذي سيغفر له) ويشملك باستحقاقات آلامه الكلية القدسية، وأنا بالسلطان الرسولي المعطى لي أحلك من جميع القصاصات والأحكام والطائلات الكنسية التي استوجبتها، وأيضاً من جميع الإفراط والخطايا والذنوب التي ارتكبتها مهما كانت عظيمة وفظيعة، ومن كل علة وإن كانت محفوظة لأبينا الأقدس البابا والكرسي الرسولي، وأمحو جميع أقذار الذنب، وكل علامات الملامة التي ربما جلبتها على نفسك في هذه الفرصة، وأرفع القصاصات التي كنت تلتزم بمكابدتها في المطهر، وأردك حديثاً إلى الشركة في أسرار الكنيسة، وأقرنك في شركة القديسين، أردك ثانية إلى الطهارة والبر اللذين كانا لك عند معموديتك حتى أنه في ساعة الموت يغلق أمامك الباب الذي يدخل منه الخطاة إلى محل العذاب والعقاب، ويفتح الباب الذي يؤدي إلى فردوس الفرح، وإن لم تمت سنين مستطيلة فهذه النعمة تبقى غير متغيرة حتى تأتي ساعتك الأخيرة، باسم الأب والابن والروح القدس) .
    بقي أن نلفت النظر إلى حقيقة الوضع الذي كانت عليه الكنيسة، والظروف التي ألجأتها لمثل هذه التصرفات، ففي هذه المرحلة من تاريخ الكنيسة كانت تواجه ألد وأخطر أعدائها (المسلمين )، وكانت الحروب الصليبية قد استعر أوارها، وبدأت تلوح علامات الهزيمة للصليبيين، وبلغ ضعف الحماس الديني في نفوس الأوروبيين مبلغاً كبيراً، وفقد المقاتلون ثقتهم في الكنيسة نتيجة لخيبة أملهم في النصر الذي وعدتهم وعداً قاطعاً، ولم يروا للمسيح والملائكة والقديسيين أثراً في معاركهم، بل على العكس تخيلوا أنهم يقفون ضدهم تماماً، وبذلك اهتز موقف الكنيسة، وأيقنت أن وعودها المعسولة بالنصر، وقراراتها الشفوية بالمغفرة للمشتركين في الحرب لم تعد تؤدي مفعولاً مؤثراً، فقررت تجسيد هذه الأماني في وثيقة خطية محسوسة يحملها المقاتل، ويندفع للاشتراك في الحملة الصليبية، وهو على ثقة وعزم، وتنفيذاً لذلك برز إلى الوجود مهزلة جديدة هي (صكوك الغفران )، وكانت كما يقول ول ديورانت: توزع على المشتركين في الحروب الصليبية ضد المسلمين .
    وعليه فلم يكن ليحظى بالحصول على صك غفران إلا أحد اثنين:
    1- رجل ذو مال يشتري الصك من الكنيسة حسب التسعيرة التي تحددها هي.
    2- رجل يحمل سيفه ويبذل دمه في سبيل نصرة الكنيسة والدفاع عنها وحراسة مبادئها.
    3- وغير هذين رجل ثالث يعتصر قلبه أسى لأنه لا يملك ثمن الصك أو لا يستطيع أن يشترك في الحرب، إما لعجزه وإما لكونه غير مستعد للموت من أجل الكنيسة؛ لكنه يظل أسير صراع نفسي مرير وشعور بالحرمان قاتل.
    وهكذا فالكل مضحون، والكل خاسرون، والكنيسة هي الرابح الوحيد وإن كانت عند الله شر مقاماً وأخسر صفقة.
    نتائج هذه البدعة:
    إن بدعة كهذه لن تمر في التاريخ مرور الكرام، بل هي جديرة بأن تحدث أصداءً واسعةً الانتشار، وتثير ردود فعل بعيدة الآثار، لاسيما وقد ظهرت في الفترة التي اتصلت فيها أوروبا بنور الإسلام، وأخذت العقول النائمة تتلمس مكانها في الحياة، وبدأت الفطر تستيقظ بعد طول رقاد.
    كانت هذه البدعة أول أمرها من أسباب قوة الكنيسة ودعائم شموخها، لكنها ارتدت عليها بعد ذلك شراً مستطيراً ووباءً قاتلاً.
    فمن ناحية المكانة الدينية ارتفعت منـزلة رجال الدين في نظر السذج والجهلة بعد أن منحهم المسيح هذه الموهبة العظيمة، وخيل إليهم أنه ما دام أعطاهم حق المغفرة للناس فبديهي أنه غفر لهم، بل قدسهم ووهبهم من روحه كما يدعون، وبذلك تجب طاعتهم والتزلف إليهم وتملقهم على من أراد التقرب إلى المسيح والحصول على رضاه.
    وإذ قد آمن الناس -ملوكاً وصعاليك- بحق الغفران، فقد سهل عليهم أن يؤمنوا بمقابلة حق الحرمان، ولم يزدادوا طمعاً في ذاك إلا وازدادوا رهبة لهذا.
    ومن الوجهة المادية أثرت الكنيسة من عملية بيع الصكوك ثراء فاحشاً، حتى أصبحت بحق أغنى طبقات المجتمع الأوروبي آنذاك بما تكدس في خزائنها من أموال وتدفق عليها من عطايا وهبات.
    ومن الوجهة السياسية قويت الكنيسة، وتدعمت سلطتها بالجحافل البربرية التي تطوعت للقتال في سبيلها من أجل الحصول على الغفران، وبالمقابل انخفضت سلطة الملوك الذين كانوا جنوداً للكنيسة بأنفسهم في الحروب الصليبية، إلا من تردد منهم أو حاول التملص من قبضتها، فعوقب بالحرمان كما حدث لـفريدريك الثاني .
    كل هذه الثمار جنتها الكنيسة من جراء هذه المهزلة المبتدعة، وكان نتائجها الطغيان الأعمى والغطرسة الباغية، ولم لا تطغى وتستبد وقد عبدها الناس من دون الله وقدسوا تعاليمها دون تعاليم المسيح؟! ولم لا تغتر وتتجبر وهى تملك المجتمع من ناصيته وتتحكم في الضمائر وتسيطر على الأرواح كما تشاء، وترفع من أحبت إلى أعلى عليين، وتقذف من أبغضت في دركات الجحيم، وتنصب هذا قديساً وذاك شيطاناً مريداً؟!
    تلك هي الصورة الإيجابية التي خلفتها هذه المهزلة للكنيسة، وعليها اقتصرت نظرة آبائها، فدفعهم الغرور إلى المضي قدماً، وازدادوا نهماً غير عابئين بالنتائج ولا حافلين بالعواقب.
    لكن سنة الله لا تحابي أحداً ولا تجامله، فكل شيء جاوز حده انقلب إلى ضده، والزبد يذهب جفاءً، وهكذا كانت صكوك الغفران مسماراً في نعش الكنيسة وبدايةً لنهايتها، وكانت خسارتها بها عظيمة عظم جنايتها.
    فمن الوجهة الاقتصادية نرى الإقبال الهائل على شراء الصكوك أعقبه انكماش وفتور كالذي يصيب أية بدعة أو ظاهرة جديدة بعد فترة من ظهورها فنضب الكثير من موارد الكنيسة في حين ازدادت طمعاً وشراهة اضطرت إلى عرض الصكوك بطريقة مبتذلة، فكان الآباء والقساوسة يتجولون في الإقطاعيات ويبيعونها بأسعار مخفضة ثم زهيدة، وكلما ازداد العرض قل الطلب، وتولد لدى الناس شعور داخلي بأن شراءها إضاعة للمال فيما لا فائدة فيه، أو على الأقل فيما ليس مضمون العاقبة.
    وفي الوقت نفسه داهمت المسرح المالي فئة جديدة من الناس أخذت تظهر بوضوح منافسة للطبقتين البارزتين آنذاك "النبلاء" و"رجال الدين" تلك هي الطبقة البورجوازية، وحصلت تحولات أخرى كانت بمثابة المؤشر لنهاية النظام الإقطاعي بجملته.
    ومن ناحية المكانة الدينية لرجال الدين فقد بدأت تلك الهالة القدسية المحيطة بهم تتبخر شيئاً فشيئاً بعد زمان من ظهور هذه المهزلة وابتداء الناس يعتقدون أنهم كانوا مخطئين في ذلك الاندفاع الأعمى والتسليم الأبله،وعمَّق ذلك الاعتقاد تنافس القساوسة على بيع الصكوك مقروناً به سيرتهم السيئة وجورهم الفاضح، وعجب الناس إذ رأوا كثيراً من الأشرار والطغاة والمجرمين يتبوءون مقاعدهم في الملكوت ببركة الصكوك التي منحها لهم رجال الدين، فكان ذلك إيذاناً بالشك في قداسة رجال الدين أنفسهم ومدى صلاحهم واستحقاقهم للملكوت في ذواتهم.
    ومن ناحية المركز السياسي والنفوذ الدنيوي: كان لصكوك الغفران وما أحاط بها من ظروف وملابسات أثره البالغ في العلاقة بين الكنيسة من جهة والملوك والأمراء والنبلاء من جهة أخرى، فقد رأوا أن قبضة الكنيسة تزداد استحكاماً مع الأيام، وأنهم وشعوبهم ليسوا إلا أدوات أو صنائع لرجال الدين، يمنون عليهم بالعفو إن رضوا، ويعاقبونهم بالحرمان إن سخطوا، كما أن الثراء الذي حصلت عليه الكنيسة جعلها تبدو منافساً قوياً لأصحاب الإقطاعيات وكبار الملاك، فكان يسيطر على الجميع شعور موحد بالعداوة لها والحقد عليها.
    لذلك لم تكد بوادر الاستنكار ضد تصرفاتها -لا سيما صكوك الغفران- تبرز للعيان حتى انتهزها الملوك والأمراء فرصة سانحة لحماية الحركات المعارضة، وتأجيج سعيرها، ولولا أن بعض المصلحين الكنسيين -ولوثر خاصة- وجدوا الحماية والعطف من الأمراء والنبلاء لما نجوا من قبضة الكنيسة ونتائج قرارات حرمانها.
    ومن ناحية أخرى رأى الأوروبيون -حكاماً ومحكومين- الحياة الكريمة التي يعيشها الشرق الإسلامي، حيث لا كهنوت ولا طغيان ولا احتكار، فهزت هذه الرؤية أنفسهم، وبهرت عيونهم لدرجة أن صكوك الغفران ووعود الكنيسة بالملكوت أصبحت بالنسبة لهم هراءً لا طائل تحته وعبثاً يبعث على الاشمئزاز والاستخفاف.
    تلك صورة مجملة لبعض النتائج التي ترتبت على بدعة صكوك الغفران وملابساتها بالنسبة للكنيسة خاصة، أما بالنسبة للوضع الاجتماعي والديني بصفة عامة، فقد كانت صكوك الغفران سبباً مباشراً في انبعاث الشرارة الأولى التي اندلعت نيرانها فيما بعد، فالتهمت الأوضاع الاجتماعية وأودت بالتعاليم الكنسية والتقاليد الدينية كافة، ولا يشك أي منصف في أن للإسلام تأثيراً مباشراً على الثورة العارمة ضد الكنيسة، وإن كان دعاتها ومؤيدوها يكنون له أشد العداوة والحقد، على أن ما يهمنا الآن هو أن مهزلة صكوك الغفران قد ساعدت بصفة مباشرة على هدم التعاليم الدينية من أساسها، والاستهتار بكل المعتقدات والأصول الإيمانية بجملتها، وأسهمت في انتشار فكرة إنكار الآخرة والجنة والنار التي لا يقوم دين بغيرها.
    وما زالت إلى الآن شاهداً قوياً ومستنداً قاطعاً لكل أعداء الدين في الغرب، حيث نشأ عن الكفر برجل الدين وتصرفاته كفر بالدين ذاته وما يتصل به من سلوك وخلق.
    وكان الخيار الصعب الذي وضعه أعداء الدين -لا سيما اليهود- أمام الإنسان الأوروبي هو: إما أن يؤمن بصكوك الغفران، فيحكم على نفسه تلقائياً بالجمود والغباء والرجعية المتناهية، وإما أن يكفر بها فيلزمه الكفر بالإطار الذي يحويها بكامله، إطار الدين والغيبيات، لا سيما الآخرة.
    لذلك نجد الفيلسوف اليهودي الوجودي "جان بول سارتر" يجسد هذا الخيار في إحدى رواياته المشهورة "الشيطان والرحمن" هذا مع أن الكنيسة في عصرنا الحاضر لا تصدر صكوك غفران، بل تستحي من ذكرها، وتخجل كلما دار الحديث عنها.